أنا حجة .. الجزء الثاني

يوم عرفة

يوم الموقف العظيم

نعم هو كذلك

وأحسب الحكمة منه أن يكون تذكرة لمن يتذكر !!

***

قضينا ليلة التاسع بمنى

لنستيقظ صباحا ونركب الحافلات متجهين إلى صعيد عرفات

عندما كنت صغيرة - وربما حتى حين تلك الحجة- كنت أظن أن جبل عرفات

جبل ضخم يتسع لتلك الملايين من الحجاج للوقوف فوقه يوما كاملا

وعندما كنت أصغر

كنت أعتقد أيضا أن الوقوف بعرفة يعني قضاء ذلك اليوم (وقوفا) بالفعل!!

لكنني يوما لم أستكثر ذلك

بل كنت أراه مناسبا جدا ... فلماذا لا نقف لله يوما واحدا في العمر بل وكل عام

لنشكر جزءا يسيرا مما أنعم به علينا!!

***

اقتربت الحافلات من ذلك المكان الوااسع المليء بلافتات كتب عليها

(عرفات)

كنت أبحث عن ذلك الجبل الذي أراه في التلفاز كل عام

لكن الأمر لم يكن بذلك اليسر

فحقيقة أنا لم أره

استقرت الحافلة بنا في مكان اتفق راكبوها على أنه جيد

وبدأوا بإنزال أمتعتهم

استعدادا لقضاء يوم طويل حتى المغرب

قام الصحب بفرش البسط وانزال الحقائب والعلب المحتوية على الاغذية

وترتيبها

وجلسوا.. يتحدثون...

كنت أنتظر شيئا ما ليحدث

لكنني لم أعلم أبدا ماهو

فقط كنت أشعر أن اليوم يجب ألا يمضي كنزهة خلوية نتبادل فيها الاطعمة والاحاديث!!

مرت عدة ساعات وانا صامتة

استمع ولا أنصت

شاردة أتدبر ماحولي وأنتظر لذلك الشيء أن يحدث

لكنه خذلني .. ولم يحدث

:(

كنت أعلم أننا سننصرف قرب الخامسة عند المغرب

فنظرت في الساعة لأتبين كم مضى من الوقت وكم بقي

فوجدتها الحادية عشرة

وكأن سلكا كهربيا أوصل بي ليجعلني أنتفض قائلة

حدااااشر لحقنا؟!!!!!

ردت من بجواري ببعض كليمات مفادها .. (نعم)

فزعت كثيرا لذلك فقد شعرت أن الوقت يمضي مني سراعا

ولم أفعل شيئا بعد

شعرت بحسرة وندم شديد

كأن يوم عرفة عمري وما بقي فيه إلا تلك السويعات القليلات!!

نعم

كان هذا هو شعوري حقا

ولكم أن تتخيلوا شعور من أمضى عمره يسمع ثرثرة ثم اكتشف فجأة أنه مابقي له إلا 6 ساعات

!!!

لم أجدني بعدها إلا وقد انزويت على نفسي في ركن بعيد

تتبعثر دمعات ندمي من مقلتي

لألملمها بكفي خوفا من الفضيحة!!

وأي فضيحة تساوي فضيحة من أضاعت عمرها في ثرثرة!!

كنت أعاتب نفسي

أما كفاكِ مافات من اللهو في السنين السابقات

أهذا وقت اللهو ومكانه!!

أهنا يكون ضياع الوقت؟!

أهنا تسرفين الدقائق والثواني!!

ربما مكثت في عتابي هذا ساعة أو يزيد

لا أذكر تحديدا

كل ما أذكره أنني قسوت عليها للحد الذي يجعلها تطيعني فيما تبقى من الوقت

ومضى ما تبقى من الوقت

لم أشعر به مثلما شعرت بالساعات الأُول

فقد كانت خمس ساعات برفقة ربي

رحلت سريعا.. سريعا جدا

ماكنت أريد لها أن تنتهي

لولا أن صوتا نادى فينا قائلا هيا اصعدوا

نحن نستعد للرحيل

أزحت كفاي عن عيني لأرى الشمس بدات بالمغيب

وكنت قد أغلقت كفاي علي وهي في كبد السماء!!

يا إلهي

مضى الوقت سريعا حقا

لماذا؟؟

لماذا لا يطول النهار أكثر

ساعة واحدة بعد

أرجوكم !!!!

وبدأت بالنحيب كالطفلة الصغيرة

لم أكن أشعر بمن حولي

بل لم أكن أراهم

كنت أسير

وأصعد درجات الحافلة

وأنا أنتحب

أريد لو يتوقف الزمان هنا

في تلك اللحظة

لا أريد أن أرحل

لا اريد

كانت خلاياي تصرخ بهم

دعوني دعوني هنا أناجي ربي

كنت أتوسل الشمس ألا تغيب

كنت أتوسل النهار ألا ينقضي

ولما رد الصدى توسلي

توسلت الله عز وجل أن يقبضني هنا

فأنا لا أريد عيشا بعد هذا

كفاني من هذا النعيم بقربه ماكان

كفاني من لذة مناجاته

اكتفيت من الدنيا واكتفيت من البشر

اكتفيت من الزمان والمكان

اكتفيت من الحياة

فقد تنعمت بما هو اسمى من الحياة

!!

بدأت عجلات الحافلة بالتحرك

والكون يغرق في الظلام شيئا فشيئا

أما انا

فقد أنهكني البكاء

وجفت أدمعي

فأسلمت رأسي الشارد إلى النافذة بجواري

أتأمل جموع البشر وهي تسير من حولي في ساعة النفير

مشهد مهيب

لا تصفه كلمات

جل ما يمكن قوله أمام مشهد كهذا

هو أنني تيقنت حقا

ان يوم الحشر سيكون صعبا..

صعبا جدااا

!!!

فاللهم نجاة وعفوا

***

يقال ان الطريق من عرفات إلى المزدلفة ما يقارب الخمس كيلومترات

لا أعلم حقا كم المسافة تحديدا لكنني أعلم أنها قصيرة

لكنه أخذ منا مايقارب الثلاث ساعات أو حتى يزيد

فزحام السير مابين راكب وسائر يجعل المسافة تطول كثيرا

مرت تلك الساعات بين ذكر وتلبية

وأحاديث أخرى متناثرة

و

وصلنا إلى المزدلفة

مكان شاسع أيضا

حافلات وصلت قبلنا

وسائرون ايضا وصلوا قبلنا

خيام منصوبة

نيام افترشوا الأرض

مجموعات جلست تتسامر والبسمات تعلو الوجوه

أطفال يركضون هنا وهناك

وأم تصيح بأبنائها ألا يبتعدوا

رحلات إلى الحمامات بعد يوم طويل

أفراد تناثروا هنا وهناك يجمعون الحصى

مشاهد ومشاهد

لم تكن تبعثني إلا على الابتسام .. بطمئنينة وسكينة

فقد كنت أشعر حقا برضا وسكون لم اشعر بهما قبلا

ببساطة... كنت سعيدة من أعمق أعماق قلبي

:)

استقر بنا المقام في مكان ما حدده الركاب معنا كالعادة

نزل الجميع

فرشوا البسط

صلوا المغرب والعشاء جمعا وقصرا

ورحل كل إلى حال سبيله

من جمع الحصى

ومن نام

ومن جلس إلى صاحبه يتحدثان

المهم

أديت صلاتي

وصحبت رفيقة أمي إلى الحمامات

ثم عدنا لنجمع الحصى لرجم ابليس غدا

امسكت كيسا

وبدات أجمع في حصواتي

حقيقة

كنت في البداية أجمع .....صخورا لا حصوات

D:

انتبهت صديقة امي إلي وبدأت في الضحك بشدة

- ايه يابنتي دا

دا انتي شكلك مغلولة منه أوي

ضحكت كثيرا وانا اوافقها

فأخبرتني بان أجمع حصوات صغيرة

فالرجم معنى لا حس

لكن بما جمعته سأجعل الحجاج يشعرون برجمي عبر دماء تسيل من رؤوسهم

D:

المهم

أعدت جمع حصوات صغيرة

كنت أجمعها وأنا أشعر بأنني أعد العدة لمحاربة الشيطان

لمحاربة اللعين الرجيم

انتهينا

وعدنا إلى حيث تجلس الرفقة

كنت قد استنفذت طاقتي في هذا اليوم الطويل

وبحاجة ماسة إلى نوم عميق

قلت بوداعة الأطفال والنوم يغالبني

- خالتو (رفيقة امي) عاوزة أنام

- تعالي نامي هنا ياحبيبتي

هنا: تعني على رجلها >> ممدة في العراء

لم ترق لي الفكرة فبدأت بالبحث عن بدائل أخرى

ذهبت وألقيت نظرة على الحافلة فوجدتها فارغة

لكن النوم في حافلة تحمل امتعة 40 حاجا ليست مكانا مناسبا أبدا لنوم فتاة!!

ناديت (محمود) -حسبما اتذكر اسمه- وهو ابن رفيقة رفيقة والدتي

ويصغرني بثلاث سنوات

- محمود انت هتنام؟؟

- لا انا نمت في الطريق ومش جايلي نوم هخليني للفجر

- طب خليك واخد بالك من باب الباص انا هنام لو حد جه يدخل قوله اني نايمة

- خلاص ماشي

هكذا حصلت على فراش وحارس لأنعم بنوم هادئ بعد يوم شاق.

توسدت يدي وتلوت أذكار النوم وأرخيت جفناي في رضا وسعادة بالغين

استعدادا ليوم غد ... يوم العيد

.................... يتبع